من صفرو:لَـكِ الله يا سَـيِّـدتي

نجيب طلال

صور بديعة ؛ وخلابة بطبيعة خلـق الله ؛ كانت مترسخة في ذاكرتي منذ الصغـَر عَـن  مدينة صفرو.  صفرو في الذاكرة ( تلك) الجـَنة على أرض رب العالمين؛ هكـذا انطبعت يوم اسطحبتني  جدتي من والدتي رحـم الله الجميع؛ إلى أعالي الجبال لزيارة ضريح  كنت أسمع أنه سيدي علي : على اسم جدي رحمه؛ الذي كان متصوفا بشكل رهيب؛ بحيث كان لا يتكلم كثيرا ؛ ولم يصرخ أو يغضب  قط في حياته ؛ وذلك حسب ملازمتي له أثناء زيارتي له ؛ والغريب أنه كان لا يشارك المجتمع العائلي في أفراحه ومسامراته إلا لماما؛ كأنه انطوائي؟ لكنه في ليالي الحضرة وإنشاد دليل الخيرات مع مجموعته الفيلالية ؛ رفقة المرحوم أحمد البدوي .يصبح نموذجا آخر؛ وفي عالم مختلف يسن السماء والأرض ؛ كـَأنه في حضرة الإمام أبي عبدالله سليمان “الجزولي” ربما في هَـذا الجو الصوفي؛ دفع جدتي لمعانقة ضريح سيدي علي بوسرغين ؛ عرفت اسمه بالكامل بعْـدما ترعَـرعت طفولتي جيدا ! إنها كانت مهووسة بزيارته ؛ لمعتقـد في مخيلتها؛ والمثير أنها كانت تـُقيـم وتبيتُ هناك في الضريح يومين أو ثلاث ؛ في تلك الآيام أظل هائما بين اللعب بين سواقي الحدائق والمروج وفي مجْـرى الوادي ؛ وفي البساتين المتمرة بشتى أنواع الفواكه ؛ وعلى رأسها فاكهة ( حَـبّ الملوك: الكـرز) أشاهد مناظرها بشكل بانورامي ، حتى ترسخت المدينة في ذاكرتي كما أشرت : بشكل رهيب؛ فأحببتها في دواخلي وجوارحي؛ لأنها البهاء والصفاء الذي يبحث عنه كل مريد للسكينة والهدوء؛ من صخب الدنيا والركض وراء السراب ! أو متاع لا ينقضي طلبه ! فكنت أزورها مرات ومرات ؛ لأستمتع بجمالها المائز ! وبساتينها الفيحاء! وحقولها الشاسعة ! وما أسماء الأماكن فيها ( ك): الليمون/ رحبة العَـواد/ اللـوز/ الزيتون/ حب الملوك/الرمان/الورد/…/ إلا دلالة على أرض غناء بتمارها وطبيعتها الخلابة ؛ والتي يقويها ويزيد في إنعاشها ، واديها الفـياض ! واد ( أكاي) منبـع الحياة ، والذي يقسم المدينة إلى نصفين ! وادي يخترق المدينة القديمة؛ ويُنمِّي بالفعل  سياحة القصبة والقلعة ؛ ناهينا عن شلالها المنهمر بمياه عذبة  طوال دورة الحياة ؛ وتارة أترك لجسدي المنهك بالتجوال؛ ليسترخي في فضاء مائج بالزوار وبالوافدين من كل الأمكنة القـَريبة وشبه البعيدة ، ومن  زبائن أهل المدينة ؛ إنه مقهى باب ( المقام) فضاء متكئ على سور يشهد التاريخ بزمان قدم المدينة، إنه من أروع ما تم صنعه بين الأغصان وأشجار العـِنب والكَـرز؛ وساقية كانت محاذية للسور بحَـيث (كان) لا يضاهيها إلا مقهى الفـدان ب( تطوان) أو مقهى ساحة التجارة ب( فاس) أو مقهى السوق الكبير ب( طنجة) أو مقهى رأس الماء بنواحي تازة أو مقهى رحبة الحنة ب(مكناس) أو مقهى باب شعفة ب ( سلا) وووو، لكن الكلَّ اضمحل وتم دكُّـه دكّـاً في غفلة من عشاق العِـشق؛ ومريدي كؤوس الشاي المُـنعْـنَع ، بين أحضان الطبيعة . في أقدم المدن المغربية “صفرو” المدينة؛ مدينة التسامح والأمان، بين الأمازيغ والعَـرب واليهود والعَـرب العاربة والمَـسحيين؛ علما أن للمدينة  تضاريس عجيبة ، تبرزفي المواقع الاركيولوجية والكهوف والمغارات… التي تعْـلن حضور المدينة في قلب التاريخ العـريق؛ وتؤكد ذلك بحمولتها التاريخية والثقافية ، التي تشير إليها أسوارها والقصبات والأبواب .ومن أعاجب الأسماء: البوابات الشاهقة (ك) باب المقام/ المربع/ ستي مسعودة/ بني مدرك/ اغـديوة/…/ناهينا عن أسماء لها نقـْش في التاريخ القديم أو الوسيط؛ ولها دلالات قوية في المسار وسجل” مدينة صفرو” ( ك)الخاينة /كاف المال / المقـَسم/ابن سحنون/ ابن صفار/ الرفايف/ أبو درهم/ لالة يَـزة / زلاغ /حجر الهواري/ درب لميت/ الشعْـبة/ السلاوي/ امساي/ الملاح/ المصلى/…/ حبونا/ درب المتر/… في هذا المكان بعْـد قـُدومي من مدينة ” ميسور” رمتني الأقـَدار صبيحة اليوم الذي سيلعَـب فيه المنتخب المغربي مع نظيره الكندي؛ أثارني بعْـض السيدات يضعَـن ملابس بالية للبيع ! لم أصدق ذلك؟ لكن عَـرجت لأخترق المدينة القديمة عبر رحبة العواد التي طالها الإهمال ؛ وخاصة سقايتها التاريخية من أجل تناول الفطور؛ بمحاذاة المسجد الأعظم ، طلبت زلافة ، جبانية” بيصارة ” بنكهة زيت العود. كبقية الزبائن الذين لاذوا في صمت؛ رهيب إلا من صوت الملاعِـق والجبانيات ..تعجبت للتحول الذي وَقـع ويَـقعُ حتى في الأحياء الشعبية ؛ لأنني كنت أحـد أبنائها؛ أحياء نشيطة ، فوضوية في حدود طبيعة العلائق بين الأفراد؛ مشاغبة بنكهة المستملحات والتقـشاب والمقالب بيننا؛ ولو حتى في الصباح الباكر وهبوب البرد القارس! أديت ثمن الفطور؛ وخـَرجت من باب بني مردك؛ نحْـو درب “المتر” لأصادف سوق بيع الخبز اليابس، طبعا هو علف للدواجن والأغنام؛ ولكنني لم أعْـرف من البائع من المشتري: هل الرجل أم المرأة ؟ لأن كِلا الصنفين مختلطين أمام تلك الأكياس!لكن تبين لي فيما بعد أن أغلبية النساء هن البائعات؛ لكن ما زعـزع كياني ! وليست لأول مرة ؛تعتريني حالة اليأس؛ وطرح الأسئـلة والتساؤلات الحارقة في دواخلي : بل كلما تجولت في الأسواق؛ أسواق المتلاشيات والملابس التليدة والبالية : أين وزارة التضامن والادماج الإجتماعي والأسرة؟ فهاته الوزارة أليست مسؤولة عَـن مؤسسة التعاون الوطني ووكالة التنمية الاجتماعية ؟ وأين اتحاد العمل النسائي والمنظمات والجمعيات النّسوية والنسائية ؟ التي تـُصهلل في اليوم العالمي للمرأة ، وغيره . وتملأ الفضاءات ضجيجا وإطنابا خطابيا وتضخيما في المطالبة من أجل المساواة / الحرية / التساوي/ التكافؤ/ العدالة/ في الحقوق؟؟ إنها مجرد شعارات طنانة؛ لتزييف الواقع الحقيقي للمرأة المغربية ، التي نقول لها : لـكِ الله يا سَـيِّـدتي ، لـكِ الله يا سَـيِّـدتي. لأن أغـلب نسائنا يكشفـَن عَـن عَـوزهن وفاقتهن؛ وبعـيدا هاهنا : عن ركضهن نحو حقول الإسبانية لجني ( الفـَراولة) ! فمدينة صفرو؛ في سوقها تعَـري عن واقع المرأة المغربية؛ كيف كانت ربة بيت إلى ربة أسواق ! بعْـدما اخترقت الدروب المجاورة للسور؛ بدء من مطحنة قديمة جدا لطحن القمح والشعـير… فالمرأة هي التي تبيع تلك الأسمال والأحذية وبعض الحاجيات المنزلية ؛ ربما سأبالغ أو سأكون من الكاذبين ؟ إن أشرت بأنني أحصيت بالعين  أكـْثر ثـُم أكثر من ِ[ تِـسع مئة ] سيدة؛ يَبعْـن، ما يبعْـن؟ هذا بعدما ولجتُ ساحة [ حبونا ] حيث عَـرمرم من السيدات يبعْـن الزيتون حُبوبا وعصيرا والخضر والألبان والأسمال والخشب والخبز اليابس في أكياس بلاستيكية … هؤلاء النساء هُـنّ بحق مكافحات . ولكن  يتَّضح أنّ هناك خللا كبيرا في  البنية المجتمعية !  فهل كلهن من مدينة صفرو ؟ سؤالي ناتج عن نتيجة ، لأول مرة أرى هَـذا السوق؛ وإن كنت أزور المدينة بين الفينة والأخرى؛ استجماما أو لحضور بعض الأنشطة الثقافية والمسرحية. لقـربها لمدينة فاس.

فاقتربت ذاك الصباح من سيدة  أمست الشيخوخة تقترب منها، فـَسألتها باقتضاب: فأشارت بأقل من اقتضاب: أنا من مدينة فاس، وهؤلاء النسوة : بعْـضهن صفـْريويات؛ وبعْـضهن من نواحيها ! إنه سوق [ أسبوعي ] وليكن، فالمرأة سيدة بيتها؛ وليست سيدة الأسواق؛ وإن كانت التجارة أمرا مقبولا شرعيا واجتماعيا؛ وحتى للمرأة الحق بالمتاجرة والعمل في الأسواق المزدحمة بالمتسوقين، لتكْـسبَ مدخولا محترما وعَـيْشا حلالا. تـَستعِـين به على مواجهة متطلبات الحياة؛ لأسباب أسرية (متعَـددة)؟ يَحضر فيها اليُـتم والطلاق والتشرد والترمل والمرض والبطالة والعطالة والأوضاع المزرية وقـَساوة الزمان… كل هَـذا وغيره ( هي) عوامل أساس أمام نسوة يكـْدحن بعَـرقهن لأجل لقمة العـيش الكريم ، بكرامة وعـزو نفـس ، ولا خلاف على ذلك . لكن ما نراه ، أو ما نصادفه أمام  نساء هُـنّ البائعات في السوق اليومي أو الأسبوعي. أمر آخر؟ يرتبط بسؤال جوانية البنية الإجتماعية : أين الرجال والشباب ، أمام هذا الاكتساح النسوي للأسواق؟  طبعا الإجابات والآراء تختلف؛ لكل ما يتبين عيانيا؛ بدل التقارير والتصريحات، بأننا نعـيش هَـشاشة [حادة] متجلية في دوخل الأسر المغـربية ، وفاقة وفقـرا مُـدقعا يجثم على صدور آلاف الأسر ويطوِّقهم بحِـزام البؤس والحرمان ، وأخطر من ذلك قساوة القلوب ! غياب التعاطف والرحمة والتآزر والتكافل الإنساني ! بحيث هنالك غِـنى فاحِـش ؛ ينهمر بين الغـُرف المخملية، والمراقص الليلية والحانات الغناء؛ بأضواء الزمرد والمرجان ! هنالك أغنياء؛ أثرياء ؛ لا يعْـرفون الأسواق؛ ولا يَعـرفون أن هنالك نسوة يكْـدحن في العَـشي والرواح  وقبل صياح الديك ،على لقمة عيش نظيفة ؛ من أجل التخفيف من حدّة الفقر، ودحر الجوع وعوائد الزمان ؟ إننا أمام واقع سوريالي خليط بالعبثي ؛ يحاول أن يصرخ بين ثنايا جدران اللامعقول :  لـكِ الله يا سَـيِّـدتي ، لـكِ الله يا سَـيِّـدتي  . أينما كنت تكافحين وتناضلين من أجل نفـسك أو أسرتك أو عائلتك .