ضيوف بن عيسى يناقشون: “العرب اليوم وأعباء الفراغ الاستراتيجي”
احتضنت مكتبة الأمير بندر بن سلطان ندوة بعنوان “العرب اليوم وأعباء الفراغ الاستراتيجي”، مساء يومه الثلاثاء 17 أكتوبر الجاري، وتأتي هذه الندوة في إطار الدورة الخريفية من النسخة الرابعة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي الدولي، الذي تنظمه مؤسسة منتدى أصيلة تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، في الفترة الممتدة بين 06 و 26 أكتوبر الجاري.
وسلطت ندوة اليوم الضوء على عوامل التراجع وأفق الاصلاح بين الشعوب العربية وإمكانية خلق مجتمع وعالم عربي متماسك ومتضامن، مبني على مبدأ حسن الجوار والعروبة الحقة، لأن العالم العربي اليوم يملك فضاء جغرافي مهم، ويعتبر من أقدم المنظمات الاقليمية في العالم،
رغم تراجع الدور السياسي والديبلوماسي العربي في الأجندة الدولية، مما انعكس سلبا على المصالح الاستراتيجية العربية، الشيء الذي يساهم في جعل الصوت العربي ضعيفا في المحافل العالمية.
وفي كلمته الافتتاحية أكد محمد بن عيسى رئيس مؤسسة منتدى أصيلة، أن الندوات المبرمجة بموسم أصيلة الثقافي الدولي تعير اهتماما خاصا للتطورات والتحديات التي تواجهها المجتمعات في أفريقيا وفي المشرق العربي، مبرزا أن منطقتنا تعيش أوضاعا استثنائية خاصة، في ظرفية دقيقة تحتاج منا التفكير المعمق، والاستشراف الثاقب، لتشخيص الواقع واستكناه المستقبل، فمن الجلي أن الخارطة العالمية تغيرت نوعيا في الآونة الأخيرة، كما أن الموازين الجيوسياسية تبدلت، وقواعد النظام الدولي لم تعد كما كانت ومن هنا لا بد من مراعاة هذه المستجدات في أي تفكير معمق وجاد.
وتابع بن عيسى”ولقد انطلقنا في هذه الندوة من ملاحظة دقيقة صاغها سمو الامير الراحل سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي الأسبق، عندما تحدث عن ما تعيشه اغلب دول العالم العربي من “خواء استراتيجي” ناتج عن عوامل دولية واقليمية معروفة للجميع“.
وأضاف رئيس منتدى مؤسسة أصيلة،” ما نريد اليوم هو تسليط الاضواء الكاشفة على هذه المعادلة في اتجاهاتها، ورهاناتها، وافاقها المستقبلية ولا شك أن جمعكم الكريم قادر على تقديم الرؤية الساطعة، والفهم الرصين للمعادلة الجيوسياسية العالمية بتأثيراتها الاقليمية تلمسًا للمسلك الناجع لاستعادة العرب زمام المبادرة الاستراتيجية في سياق دولي متغير“.
قال محمد أوجار، القيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار ووزير العدل السابق، إنه لا يؤمن بوجود “نظام إقليمي عربي”، “مادام الجار الجزائري يقدّم مثالا حيا لعدم وجود هذا النظام، بتعبئته كل طاقاته لتدمير المغرب”، مشيرا في سياق آخر إلى أن “الجزائر حين استضافت قمة جامعة الدول العربية، تحت شعار ‘الوئام العربي’، تبين أنهم حين كانوا يخطبون في هذه القمة كانوا يخططون أيضا للمناورات وللدسائس لضرب استقرار المملكة المغربية”.
وسجل أوجار، أن “ما يشعر به المواطنون الليبيون أيضا هو أن الجزء الأكبر من المسؤولية عن الكوارث التي تعيشها الدولة والشعب الليبيان يتحمله الأشقاء العرب، ما لا يتيح إمكانات الحديث عن الانتماء إلى نظام عربي إقليمي مفترض”.
وذكر وزير العدل المغربي سابقا أن “ما يحدث في غزة الآن يبين بدوره عدم جدوى الحديث عن هذا النظام”، الذي اعتبر أنه “لو كان فعلاً موجودا لتصرّفنا كما تصرف النظام الإقليمي الأوروبي والنظام الأنغلوساكسوني أو النظام الأطلسي، الذي صرف مواقف دفاعا عن إسرائيل، وهذا حقه”؛ متأسفا، في الصدد ذاته، “لما يحدث على أرض فلسطين ولما آلت إليه أوضاعنا جميعاً معه”.
ولفت السياسي المغربي ذاته إلى أن “النظام العربي اليوم يعيش وضعية إستراتيجية لا تكفي كلمة ‘الفراغ’ لوصفها”، مضيفا: “ونحن نتحدث عن ذلك في المملكة المغربية؛ البلد الذي بمراس امتد لـ12 قرنا، ودولة تتفاعل على هذه الأرض وتنتج فعلاً اجتماعيا تاريخيا مكّنها اليوم من تدبير ملف ‘الإسلام السياسي’، وتمكين هذا المشروع ليتحوّل إلى صوت من داخل المؤسسات، رغم أن تجربته كانت فاشلة في تقييمي الشخصي”.
واعتبر القيادي في “حزب الحمامة” أن “هذا الإسلام السياسي الذي مكنته الديمقراطية المغربية من آليات المشاركة السياسية، وتمكن أن يصير فاعلا على مستوى التدبير، عاقبه المواطنون في النهاية وعاد إلى بيته، واليوم هناك تجربة أخرى”، وزاد: “الوضع مختلف الآن، وبما أننا نعيش اليوم هذا السياق الإستراتيجي الخطير، ونتحدث إلى جيل عربي جديد، نتساءل: هل تكفي اللغة العربية والامتداد الجغرافي والانتماء إلى الدين نفسه لصناعة نظام إقليمي؟”.
“تجاربنا على مدى 60 سنة تُوصِلنا إلى الإقرار الأليم بأن هذه الاعتبارات لا تكفي، لأن النظام العربي الإقليمي نظام للاستبداد، للحكم الفردي ولتعذيب الشعوب والدوس على الحريات والحقوق”، يورد المتحدث ذاته، قبل أن يفيد: “جربنا كل المشاريع، واليوم لا بد ونحن نتحدث للأجيال الجديدة، خاصة نحن الذين تحمّلنا كثيراً من المسؤوليات، أن نقر بفشلنا الجماعي في إشراك المواطنين والمواطنات في التدبير الديمقراطي لهذه الدول القطرية”.
وتابع أوجار: “فشلنا أيضا في بناء منظومة قيم، فما الذي يجمع الإسباني والسويدي والبلغاري والبرتغالي والتشيكي مثلا من غير منظومة القيم؟ وما هي منظومة القيم التي تجمعنا وأغلب دولنا لا تؤمن بالديمقراطية ولا تؤمن بالحكم الرّشيد ولا تؤمن بحسن الجوار؟”، مبرزاً (في إشارة إلى الجزائر) أن هذه الدّول هي نفسها التي “تعبث بثرواتها الوطنية في مشاريع تسليحيّة هدفها إسكات المعارضة وإيذاء الجار وإيذاء الأشقاء”.
ولم يكن السياسي ذاته رحيما إطلاقا بالنخب الحالية أيضا، فقد وصفها بـ”الجبن”؛ وسجل في حديثه أن “النخب في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات حملت مشاريع حقيقية، فما هو مشروع النخبة اليوم؟”، وزاد: “هل يكفي الاختباء وراء النجاعة التكنوقراطية في التدبير؟ النخب تمكلّها جبن تاريخي حقيقي وصارت تستأسد بالسلط الحاكمة وتختفي في جلباب الحاكم”.
وتابع المتحدث شارحاً: “حين انتفضت شوارعنا ومدننا العربية خلال ما سمي ‘الربيع العربي’، الذي كان رفضا للدولة الوطنية ورفضا للنظام الإقليمي العربي، كيف كان الجواب العربي؟”؛ وواصل: “كان خروجا يتطلع إلى الحرية والتغيير، فتعاملنا معه بمنطق قمعي، بثورات مضادة أوصلتنا إلى انهيارات الدولة الوطنيّة. ما يحدث في دولنا مأساة… في سوريا ولبنان وفلسطين وليبيا واليمن والعراق، لكن الخطاب الأكاديمي العربي مازال يجرؤ على مواصلة الحديث عن نظام إقليمي عربي”.
وأورد أوجار: “نحن نحيا الآن في مجتمعات جديدة تحكمها وسائل التواصل الاجتماعي ويحكمها الإعلام الجديد والفورة الرقمية، التي خولت لشبابنا أن يشترك مع الشباب العالمي”؛ ومن ثم بدا له أنه “لا يمكن بناء الدولة الوطنية ولا يمكن بناء نظام إقليمي مع دول لا تحترم الحريات ولا تحترم الدساتير ولا يتم التداول فيها على السلطة عبر صناديق الاقتراع، ولا تشرك المرأة، ولا توفر شروط تدبير الاختلاف بوسائل الديمقراطية والقانون”.
من جهته اعتبر عبد الكريم بنعتيق، الوزير المكلف بالمغاربة المقيمين بالخارج سابقا، إن “الدول العربية هي المناطق الوحيدة في العالم التي لديها سياسة دعم للمواد الأساسيّة، رغم ما تشكله من خطورة على الاقتصاد”، مشيرا إلى أن “الدعم مبدئيا يفترضُ أن يكون مؤقتاً أو في مراحل انتقاليّة من أجل تأسيس اقتصادي مهم، لكن حين يصبح سياسة إستراتيجية كما هو الوضع الآن فهذا يشكل خطرا حقيقيا على التطور والنمو الاقتصاديين”.
وذكر بنعتيق،أن “العالم العربي له إمكانات مهمة لابد من تثمينها، منها توفر فضاء جغرافي حاسم، مساحته تصل إلى أكثر من 13 مليون كيلومتر مربع، على اعتبار أن المجال له ثقل في معادلة التنمية”، مُقارناً شساعة الفضاء المتوفر مع الصين التي تقدر مساحتها بـ9 ملايين كيلومتر مربع، وأمريكا بـ9 ملايين كيلومتر مربع، وأيضا روسيا بـ17 مليون كيلومتر مربع”.
واعتبر الوزير السابق أن “هناك مشتركا أساسيا، منه وجود منظمة جامعة الدول العربية، التي هي من أقدم المنظمات الإقليمية في العالم، بحيث تأسست في مارس 1945″، كما أن “هذه الدول تتوفر على رأسمال بشري هام، فتعداد السكان يصل إلى 429 مليون نسمة، بالمقارنة مع الاتحاد الأوروبي الذي تبلغ ساكنته نحو 446 مليون نسمة، لكن بنسبة شيخوخة أكثر من العالم العربي، ما يعني أن لدينا قوة بشرية أساسيّة هائلة”.
وأفاد السّياسي نفسه بأن “المنطقة العربية تشهد نوعا من الانكماش على المستوى الاقتصادي”، فـ”كل صادراتنا بما فيها البترول لا تتعدى 200 مليار دولار”، موضحا أن “الدنمارك مثلا تصل صادراتها إلى 147 مليار دولار؛ وكوريا الجنوبية التي انطلقت في الستينيات تبلغ صادراتها 320 مليار دولار؛ وتركيا لوحدها تصدر سنويا 245 مليار دولار، بشكل يتجاوز عشرات المرات ما تصدره بلدان المنطقة”.
وأورد بنعتيق أن “الإقليم يعاني من إشكالات بنيوية حادة، منها الثقل الديمغرافي الكبير، الذي يكشف أن نسبة الأمية عندنا هي من أكبر النسب في العالم، بحيث تصل إلى 70 مليون نسمة، ما شكل دائماً عائقا واضحا أمام إمكانات التنمية”، مضيفا: “حتى التبادل التجاري ضعيف بين بلداننا، فهو لا يتجاوز 10 إلى 11 في المائة، في حين أن الاتحاد الأوروبي يتجاوز 8 آلاف مليار أورو سنويا في تبادلاته البينية، أي إن 47 في المائة من المنتج الصناعي والفلاحي والخدماتي هو تبادل أوروبي أوروبي يخدم الرأسمال الأوروبي”.
وتأسف المتحدث ذاته، الذي يشارك في موسم أصيلة الثقافي الدولي، لـ”استمرار الأزمات الغذائية الكثيرة بالمنطقة، ما جعل بلداننا على رأس الدول المستوردة للحبوب”، مسجلا أن “مصر مثلاً تستورد 10 ملايين طن سنويا من هذه المواد، وهي أعلى نسبة استيراد في العالم”، وتابع: “وارداتنا من الحبوب تصل سنويا إلى 20 مليار دولار… ومن لا يتوفر على رؤية لتحقيق أمن غذائي اليوم لا يمكنه أن يؤمن بوجود مستقبل”.
ودعا السياسي ذاته إلى “استغلال السياق الكوني الحالي المتسم بالهشاشة والخوف من المستقبل، باعتباره الفرصة لكي نتموقع داخله، وعلى هامش استمرار الصراع الإستراتيجي بين الكبار، فالمنطقة بحاجة إلى عالم عربي قوي ومتماسك وقادر على التفاوض”، مشددا على أن “الوقت حان لننتقل من مشروع الجامعة العربية إلى مشروع اتحاد الدول العربية؛ ولن تكون هناك قطيعة، بل مجرد انتقال، كما انتقلت العديد من الاتحادات في العالم”.
وفي ما يخص بنية هذا “الاتحاد”، فسر بنعتيق بأنه “يجب أن يتكون من آليتين أساسيتين، الأولى ‘مجلس أعلى’ يضم رؤساء وملوك الدول، يعقد اجتماعات دورية واستثنائية في الظرفيات غير العادية، ويسمح بإنهاء ظاهرة المؤتمرات العربية التي تحولت للخطب وتبادل الاتهامات وتأجيج الصراعات”، وزاد: “يجب أن نعتمد على الاجتماعات الدورية عن طريق جدول أعمال محدد”.
والآلية الثانية، حسب المتحدث ذاته، هي “خلق لجنة يتم تشكيلها بالتساوي لتنفيذ كل برامج المتفق عليها، وانتخاب برلمان عربي بالاقتراع المباشر وليس بالتعيين”، لافتا في السياق ذاته إلى “ضرورة إطلاق بنك عربي للاستثمار، من مهامه الأساسية تمويل فلاحة عصرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتمويل الصناعات ذات المنفعة والقيمة المضافة والبحث العلمي؛ مع خلق محكمة عربية عليا، وتشكيل عقيدة دفاعية إقليمية، لنكون حاضرين في المفاوضات وفي التعقيدات القادمة”.
وأوضحت ابتسام الكتبي رئيسة مركز الإمارات للسياسات، أن هذه الندوة تأتي في إطار تاريخي وسياسي مهم جدا، حيث تعرف العديد من الدول العربية الكثير من التطورات الجيوسياسية الخطيرة التي تشكل تهديدا كبير على الوطن العربي و المنطقة.
واعتبرت ذات الخبيرة، أن الفراغ الإستراتيجي جاء بعد تسجيل غياب مشروع عربي متكامل قادر على التغلب الإخفاقات في التعليم والاقتصاد في الهياكل السياسية، وهذا كله بحاجة إلى مشروع نهضوي نهضة عربي عبر الأيديولوجيات يستوعب التغيرات الحاصلة في العالم من ثورة تكنولوجية وفكرية، وقادر غي نفس الوقت على موازنة المصالح في عالم يتغير تتنافس فيه القوى الكبرى فيما بينها.
واعتبر المشاركون في الندوة أن عبارة ”الفراغ الاستراتيجي“ لها أربعة ظواهر متداخلة هي: ـتراجع النظام الإقليمي العربي وضعف مؤسساته المشتركة، وعجزه عن بلورة الحد الأدنى من التوافقات الداخلية بخصوص الملفات المحورية وقضايا الساعة الجوهرية.
-انهيار الدولة الوطنية المركزية في عدة بلدان عربية وانتشار الحروب الأهلية والصراعات الداخلية فيها، بما أدى إلى غيابها الكلي عن الالتزامات الإقليمية المشتركة.
ـتنامي الاختراق الأمني والجيوسياسي الأجنبي للمنطقة العربية، بحيث تزايد وتعمق حضور وتأثير القوى الإقليمية غير العربية في القضايا العربية على حساب مقتضيات التضامن الاقليمي العربي -ظهور مشاريع إقليمية جديدة على الطاولة الدولية مثل الشراكة الشرق المتوسطية وتجمع القوى الإسلامية العربية الآسيوية ….
وأخيرا تراجع الدور السياسي والديبلوماسي العربي في الأجندة الدولية، بما انعكس سلبا على المصالح الاستراتيجية العربية، وتجلى في ضعف الصوت العربي في المحافل العالمية.
ويشارك في فعاليات الدورة الرابعة والأربعين لموسم أصيلة الثقافي الدولي والدورة السابعة والثلاثين لجامعة المعتمد بن عباد المفتوحة، المنظمة تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس بمبادرة من مؤسسة منتدى أصيلة بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل وبلدية أصيلة إلى غاية 26 أكتوبر الجاري، أزيد من 300 شخصية سياسية ومفكرين إلى جانب برنامج ثقافي وفني غني.
وللإشارة فإن هذه الندوات ستعرف حضورا عربيا وافريقيا ودوليا لافتا بمشاركة صفوة من الباحثين والمفكرين وأصحاب قرار نافذين، وشعراء وإعلاميين، بالإضافة إلى مشاغل الفنون، والمعارض الفنية والورشات الإبداعية والعروض الموسيقية.