“تلاقي الفن”: ثلاثة فنانين، ثلاثة مسارات، ثلاثُ تجارب ورؤية بيئية مُوحّدة

التأم شمل ثلاثة فنانين برواق الفن المدينة Galerie d’art Médina بطنجة مساء يوم الجمعة 4 مارس 2022، وقد عرف المعرض حضور عديد الفعاليات بالمدينة ومن خارجها من تشكيليين ونُقاد ومثقفين ومهتمين بالشأن الثقافي والفني عموما. “ملاقاة فنية” أو “تلاقي فني” RetrouvArt كان هو عنوان هذا العرس الصباغي الثلاثي، حيث حضرَتْ التجربة والخبرة وتنوعت المداخل والمفاهيم التصويرية وغابت الفردانية و”الأنا”، فانصهرت الأعمال على جدران الرواق واندمجت عناصرها التشكيلية رغم اختلاف التجارب والمواضيع والألوان والتقنيات… وشكّلت بذلك عملا متجانسا يحتفي بالحياة ويخلد الطبيعة Nature بكل ما تزخر به من مكوناتها الحية والجامدة من ماء وصخر ونبات وشجر وحجر…

الانطباعية التعبيرية impressionnisme expressif التي تسِمُ أعمال الفنان “عزيز بنجة” والتعبيرية التجريدية الحركية expressionisme abstrait lyrique التي تطبع تجربة الفنان “الشيخ زيدور” وأخيرا التجريدية الهندسية البنائية abstraction lyrique constructiviste التي تلازم قماشة الفنان المخضرم “أحمد الحياني”، أمور دفعتني -بفضول الملاحظ- لطرح سؤال “التلاقي retrouvaille” بين هذه التجارب والبحث عن ذلك الخيط الرفيع الذي يمكن أن يجمع بينها ظاهريا ويجعل منها كلها تجاربَ متجانسة ومتوافقة، فكان لزاما علي طرح السؤال وبشدة. توجهتُ في البداية إلى صديقي الرواقي “عمر الصالحي” ووجهت له سؤالي عن ماهية العلاقة التي يمكن أن تجمع هكذا تيارات في معرض واحد وعلى نفس الجدار دون تمييز بينها أو حاجز يقينا ذلك اللبس الذي قد يعتري ذهن المتلقي، فأجابني بتلقائيته المعهودة أن الاختيار نابع بالدرجة الأولى من القلب، مضيفا أن الارتياح للعمل الفني يسبق بشكل أساس الارتياح للفنان نفسه وأن الفنان الذي يحمل رسالة فنية إبداعية تسبقه أعماله وتتكلم عنه في غيابه. أقنعني كلامه من الناحية الوجدانية، ومن حيث توجهه كرواقي محترف يعرف كيف ينتقي الأعمال وكيف يُنسق بين الفنانين ويختار لهم الوقت المناسب للعرض، لكن صباغيا ومفاهيميا كان علي البحث أكثر عما يُشبع غريزتي النقدية ويلبي رغبتي اللاشعورية في معرفة كُنْهِ الأشياء قبل ظاهرها، فكان لقائي في اليوم الموالي للمعرض مع الفنانين الثلاثة بأحد المقاهي المجاورة للرواق ضرورة ملحة لتبين الأمور وكشف الحقائق.


يجتمع الفنانون الثلاثة ظاهريا على تيمة الطبيعة أو المشهد الطبيعي paysage، لكن كل من وجهة نظره الفنية وحسب رؤيته الخاصة وخاماته وتقنياته، فمنذ العصور القديمة ظهرت الأنواع التصويرية بمختلف تلويناتها، لكن المناظر الطبيعية لم تكن في ذلك الوقت نوعًا تصويريًا مستقلاً، إذ كان يُشكل فقط خلفية أو عنصرا من عناصر العمل التشكيلي لكنه لم يكن موضوعًا مستقلا في حد ذاته. يعود التصنيف الدقيق للأعمال الفنية التشكيلية إلى القرن السابع عشر 17م حيث ميّز أساتذة الأكاديمية الملكية للرسم والنحت بفرنسا بين اللوحات التاريخية وتلك الدينية أو أعمال الميثولوجيا وبين الصور الشخصية والمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة، ومشاهد النوع (مشاهد من الحياة اليومية أو الحكي)… وغيرها من المباحث الصباغية المتنوعة، فالمشاهد الطبيعية ليست إلا نوعا بسيطا من الملحقات الثانوية التي ظهرت بهذه الطريقة منذ القرن السادس عشر، وكان على رسامي الطبيعية paysagistes العظماء مثل “كلود لوران Claude Lorrain” أن يرشوا لوحاتهم بمشاهد أسطورية ثانوية من أجل الانتماء إلى نخبة الرسامين آنذاك.

عزيز بنجة: من مواليد مدينة “أرفود” الذي يعيش ويشتغل بتطوان منذ سنوات، هو مصور تشكيلي أعتبره من أهم الصباغيين الانطباعيين المعاصرين في العُشريتين الأخيرتيْن من الذين تكونوا وتخرجوا من مدرسة تطوان للفنون الجميلة نهاية الألفية الثانية (1999)، وقد يعتبر من أهم رسامي الطبيعة paysagistes الجدد على الإطلاق، يُصور الحديقة بواقعية انطباعية تميل نحو تعبيرية صارخة بمساحات صباغية فاتنة وألوان حبورة تتراقص وتكاد تنطق فرحا فوق القماشة، أسلوبٌ عوّدنا عليه من خلال مُقارعة حدائق “ماجوريل” بمراكش وساحات شعبية معروفة بمختلف مدن المغرب ومناظر طبيعية وقت الغروب أو الشروق، بعد أن تجاوز أسلوبَه القديم نهاية تسعينيات القرن الماضي وبدايات العُشرية الأولى من القرن الحالي. بالنسبة إليه تسمو السلطة الجمالية فوق الكل ولا مجال للانعتاق من سطوة المفاهيم دون تمثيل تصويري pictural مدروس وتجربة متمرسة غير قابلة للتدجين والقولبة. الانطباعية هي سيدة القماش والتعبيرية ماهي إلا لمسة فوقية تزيدها انطباعا وتطبُّعا لتصبح الحديقة أكثر تقبلا للمزيد رغم امتلاء المشهد واختفاء الفراغ… فلسفته بسيطة تعتمد موضوع “الحديقة Jardin” مطية لتمرير رسالة أبلغ مفادها أن التنوع البيولوجي للنبات ما هو إلا صورة مصغرة للتنوع الذي يطبع حياتنا على البسيطة وأن الإنسان بطبعه المختلف مُطالب بتقبل الآخر والعيش معه في تناغم وتجانس رغم اختلاف اللون والعرق والأصول تماما كما تتوافق النباتات رغم اختلافها فوق تربة واحدة وفي مناخ واحد. الجديد في أعماله الحالية، والذي أعتبره طفرة نوعية في الاشتغال التصويري ل”عزيز بنجة”، هو تلك الأطياف البشرية التي تزين فضاء العمل الفني في تركيب إستيتيقي لا يشوش على باقي المكونات، بل يقحمها في التركيب العام للفضاء ويجعل منها عناصر ذاتية للمشهد المرسوم، أطيافٌ تبدو راقصة أحيانا وثابتة مُتفرّجة طورا آخر، هي بمثابة أرواح طيفية تشهد اللحظة وتلعب دور المتلقي بشفافية زجاجية كاشفة لما خلفها، هي حاضرة غائبة، حاضرة هناك لكنها لا تؤثر على المشهد ولا تنقص من جماليته. مرحلة مهمة من الاختمار الفكري والبحث التشكيلي لدى الفنان حيث ستخوله الانتقال من الانطباعية التعبيرية impressionnisme expressif نحو ما يمكن أن أسميه بالانطباعية المفاهيمية impressionnisme conceptuel.

الشيخ زيدور: ابن مدينة فاس وخريج مدرسة تطوان للفنون الجميلة عام 2001، كذلك يشتغل على تيمة الطبيعة لكن بمنظور خاص وفكر مختلف، يتخذ من التجريدية الغنائية abstraction lyrique اتجاها ثابتا منذ أكثر من عقد من الزمن بعد أن جرّب التشخيص والتجريد وما بينهما وجال بين دروب العديد من التجارب الفنية وتشرّب المفاهيم والتقنيات حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم. يستمد ألوانه ومضامينه التشكيلية من معالم مدينة فاس الثقافية وأجوائها الروحية ويعكسها في قالب تصويري على القماشة. يُشكّل عناصرَه التجريدية بطريقة غنائية متمايلة ومتناسقة من حيث الألوان والمساحات مع تغليب الرماديات اللونية gris colorés ومساحات صغيرة من الأحمر القاني والزهري أو الأزرق الناصع والأخضر اليانع مترامية بين ثنايا الأشكال لتعطي حياة لمشهد مجهري يذكرنا بأعماق بحيرة آسنة تبدو بلا حياة ولا حركة، لكنها في الواقع مرتع لحيوات متنوعة وملاذ لعديد الأطياف والأصناف من الكائنات المجهرية. تلك هي نقطة التقاء فكر الفنان “الشيخ زيدور” مع “عزيز بنجة” وهي نقطة التقاء مفاهيمية conceptuelle بالدرجة الأولى تنبني على معالجة موضوع البيئة والطبيعة وخصوصا في تنوعها البيولوجي، فبينما يهتم “بنجة” بالجانب الظاهري للحديقة وما يشمله من جمالية، يعالج “زيدور” الزاوية المظلمة في الطبيعة حيث يغوص في أعماق البرك والبحيرات الراكدة لينقل لنا تلك الصورة المظلمة من الجانب المشرق للطبيعة لكن في قالب جمالي متحرك ومتناغم يسلك بنا من خلاله طريق الخلاص والانعتاق من العمق ليطفو بنا نحو سطح القماشة.

 

أحمد الحياني: ابن مدينة تاونات الجبلية وخريج معهد تطوان للفنون الجميلة كذلك عام 1999 لا يذهب بعيدا ولا يخرج عن موضوع البيئة والطبيعة عموما، فبعد أن خاض تجارب عديدة تشخيصية وتجريدية دامت لسنوات، سخر نفسه سفيرا للدفاع عن البيئة المجالية في شقها المبني منتقدا بشدة ما آلت إليه مدننا وما أضحت عليه منازلنا ومُركباتنا التجارية من مبان كانت تعتمد التخطيط العمراني المحكم والمبني على فلسفة جمالية إلى مجرد صناديق ومكعبات إسمنتية مترامية وممسوخة تفتقر لأبسط شروط العيش الكريم ناهيك عن افتقارها للاندماج البصري ضمن البيئة التي تم زرعها فيها في تجاهل تام لعين الفنان ورؤيته، مما خلق لنا حقولا إسمنتية وزجاجية عوضت المساحات الخضراء والبساتين والحدائق العمومية. ينطلق “أحمد الحياني” في أعماله التجريدية الهندسية من تركيبات غنائية تُكون صلب عمله الصباغي وتبقى راسخة في الخلفية بعد أن يشكل عليها مكعباته وأشكاله الهندسية في تقليد بنائي constructiviste لتكوين العمران عموما، حيث التصميم أولاً فالبناء ثم الأكسسوارات والتلوين أخيرا. تبقى تصاميمه البنائية الأولى في اللوحة لكنها لا تظهر للمتلقي، تماما مثل الخرسانات البنائية والأعمدة التي تشكل أسُس البناية وركيزتها. هي رسالة نقدية صارخة لمخططي مدننا les urbanistes وللمهندسين المعماريين والمنعشين العقاريين والمنتخبين وكل المتدخلين في الشأن العمراني عموما بضرورة احترام “السكن Habitat”، هذا الأخير مُشتق من السكينة والسكون، فالبيت ليس مجرد صندوق مسكون boite habitée بل هو فلسفة متكاملة مبنية على التربية والأخلاق وعلى تكوين الفرد لغذ أفضل. يحلم الفنان “أحمد الحياني” بالمدينة الفاضلة، وهي صيغة طوبوية utopique حالمة تستمد شرعيتها من الفوضى العقارية التي طغت على مدننا، فتراه يستعمل ألوانا حالمة ومساحات موحدة اللون monochromes تعتريها ألوان بين الشكل والآخر وأحيانا ألوان أخرى أكثر جرأة كالأحمر الأجوري rouge brique والأزرق النيلي، تذكرنا بتجربة الفنان الهولندي “بيت موندريان Piet Mondrian” رائد ومؤسس المدرسة التجريدية الهندسية.

تنوعت مسارات الفنانين الثلاثة وتعددت تقنياتهم وتشكيلاتهم الصباغية وتفرقت مدارسهم بين التجريدية الغنائية والتجريدية الهندسية والانطباعية التعبيرية، لكن جمعهم همُّ البيئة والطبيعة والمجال المشترك، جمعتهم فلسفة الدفاع عن الحياة وما يرتبط بها، فكانت تلك هي البوصلة المرشدة لهذا “التلاقي الفني RetrouvArt” الذي اختلفت مشاربه ومظاهره لكن رسالته كانت موحدة ومُتفق عليها شكلا ومضمونا.

إبراهيم مشطاط، فنان تشكيلي وناقد جمالي.